Thursday, July 30, 2009

بين يدي الفكر "3" ... الركود وقانون الإفساد

بسم الله الرحمن الرحيم

لا يخفى على أحد أن الماء إذا ترك راكدا لفترة فإنه يأسن ويفسد وتعتريه التغيرات التي تذهب بطبيعته النقية الطاهرة والمطهرة لغيرها وتتبدل خواصه الطبيعية والحيوية وتنمو به الطفيليات وغيرها من علامات الفساد ، وفي عالم الجماد والآلات فإن الآلة التي تظل دون عمل لفترة طويلة يصيبها تغيرات كثيرة جلها الى الأسوء ، وكذلك الإنسان إذا ظل راقدا في فراشه دون حركة فإن الأمراض والأوبئة ستتكالب عليه لتهلك هذا الجسد الراكد لتحيله إلى عجز بعد قدرة وضعف بعد قوة وشحوب بعد نضرة ، لكن الماء الجاري له شأن آخر من الجمال والنقاء والآلة العاملة لها رونق آخر من العطاء والانتاج والجسد المتحرك له طبيعة رائعة من القوة والحيوة.

إنه قانون إلهي نراه كل يوم ويلوح أمامنا كل ساعة نلاقيه في الملمات حين تكون الكلمة للطاقات النافرة ، كما نعرفه في أوقات الرخاء سواء بسواء ، فالركود دائما شأنه الفساد والإفساد والثبات في هذه الدنيا من المستحيلات فإن لم يكن التطور والتغير الى الأفضل هو الحال القائم كان التقهقر والتراجع للأسوء هو عنوان الموقف.

لا ينطبق القانون السابق على عالم الماديات فحسب ولكنه قانون عام ينطبق على عالم الأفكار ويسري في ميدان المناهج والأنماط أيضا ، فالفكرة التي يتناولها أصحابها بجمود خال من حيوية العقل وروح الفكر ويأخذوها من أسلافهم نمطا موروثا لينزلوها إلى واقعهم كما هي ، محاولين توريثها إلى أخلافهم بنفس هذه الطريقة الجامدة ، يكون مصيرها المحتوم أن تأسن وتطرأ عليها مظاهر الفساد ، والمنهج الذي يحمله أصحابه كالأوعية الخاملة التي لا تتفاعل مع ما تحمل لا يكتب له الثبات والاستمرار بل تعتريه الإنحرافات ويرتاده الشذوذ حتى وإن كان صافيا في أوله.

والفساد في عالم الأفكار هو فساد شديد الوطأة عظيم التبعات ، تلمح أثره واضحا في هذه الصيحات الشاذة والشبهات القاتلة ، تلمسه جليا حين ترى الأفكار عاجزة امام المستجدات لا تستطيع النفاذ خلال الواقع بسهولة ، فربما تنكسر الفكرة وتخضع أمام العواصف وربما تحرفها النجاحات عن غايتها الأصلية وربما يكون ذلك الفساد استسلاما امام قضية من القضايا لا تستطيع التصرف فيها بل ربما كان هذا الفساد متمثلا في ضعف التأثير وتراجع الانجازات التي حققها السابقون ، أيا من هذه الأعراض السابقة هو علامة الفساد والاضطراب الذي طرأ على فكرة نتيجة ركود أصابها على مدار أجيال مختلفة من حامليها.

من هنا أستطيع أن أقول أن الطريقة المثلى للتعامل مع الأفكار والمناهج هي طريقة التفاعل والتلاحم ، طريقة الإبداع والإثراء ، يتلقاها كل جيل فيعرضها على واقعه ويعرض واقعه عليها ثم يعمل فيها فكره وعقله فيفرز ذلك أفكارا جديدة وأنماطا غير تقليدية تكون أكثر ملائمة ومسايرة للتغيرات المحيطه فتكون المحصلة صياغة مستقلة للجيل قد صنعها بنفسه يحملها في قلبه وينطلق منها في ميادين الانتاج والنهضة ، وبدلا من أن تكون الاجيال كلها نسخا مكررة متشابهة متطابقة ، يصبح كل جيل علامة مميزة في حد ذاته ومنارة عالية واضحة في تاريخ الدعوة والنهضة.

هي دعوة لتناول المناهج والأفكار بطريقة غير طريقة التلقي فحسب ولكن طريقة الفكر والإبداع بحيث نبدأ من حيث انتهى اسلافنا متخذين من تجاربهم رصيدا رائعا من الخبرات ومتخذين من أفكارهم وتصوراتهم منطلقا نكتشف به واقعنا ونخوض به غمار حياتنا نحمل هذه الأفكار بعقول حية تضفي عليها كل يوم ما هو جديد ، في اطار لا ينكسر من الثوابت والأصول ، نربي أخلافنا على هذا النمط الإبداعي في التعامل مع المناهج والافكار فتسير الفكرة في سلسلة متعاقبة من الاجيال المبدعة القادرة على دراسة الواقع والتعامل معه ، فتنمو الفكرة كل يوم و يزداد تمسك أبنائها بها ، وتصبح أكثر قدرة على مواجهة التحديات والتغيرات حتى يكون النصر وتكون النهضة بإذن الله تعالى.

والله الموفق
اخوكم /
عمرو عبد الباري

Monday, July 6, 2009

بين يدي الفكر "2" .... فكوا القيود

بسم الله الرحمن الرحيم
كان في السابعة من عمره عندما أحضر والده هذه اللوحة الفنية الجميلة ووضعها بإطارها المميز الذي يحمل في تصميمه عبق الأصالة وأطيافا من أنامل الفنان الذي قام بتصميمه ، لا زال يذكر هذه الأيام بشوق ولا زال يذكر والده الذي علمه كيف يكون متذوقا للجمال وعلمه قيمة هذه اللوحات الرقيقة و الرائعة ، أعاد النظر إلى اللوحة وقد أثر فيها الزمن تأثيرا واضحا وبدأت ملامحها تتلاشى ، اعاد النظر إلى التشققات والتغيرات التي بدأت تطرأ على الألوان ، تذكر كلمات والده عن الجمال والتذوق ، قرر الخروج لإحضار لوحة جديدة ما زالت تحتفظ بجمالها .....
عاد إلى بيته بعد بحث طويل بيد فارغة فلم يجد بغيته ، اللوحات الذي رآها جميلة جدا لكنها أكبر من هذا الإطار العريق الذي يضم لوحته البالية ، استغرق في التفكير، أصابه اليأس وترك لوحته القديمة كما هي بإطارها ، بعد أيام أصاب صغيره الإطار بكرته فانكسر الإطار وتمزقت اللوحة فأعاد اصلاح الإطار مرة أخرى ، وحاول إصلاح ما تبقى من اللوحة فهو يعرف أنه لن يجد مثلها كي تسكن هذا الإطار ، وبعد أيام حدثت مفاجأة... أهدى له صديقه لوحة جديدة رائعة ولها إطارأكثر من الرائع ، لم يتردد كثيرا .. أطاح بلوحته القديمة ووضع الجديدة مكانها.
ربما اقتبست جزءا من هذه القصة ، بل ربما لم يتأكد لي أصلا أن جزءا منها حدث في عالم الواقع ، لكني أكاد أجزم أن مثل هذه القصة تحدث كل ساعة في عالم العقول والأفكار ، فالتشبث بالإطار على حساب اللوحة التي هي منبع الفن والجمال حرم صاحبه من لوحة ربما كانت أجمل من سابقتها لكن ذنبها الأوحد أنها أكبر من الإطار الذي وضعه حاجزا بينه وبين دفع دماء جديدة من الإبداع على الجدار .
لا تستقيم حياة العقل إذا كانت بين القيود والقضبان ، فشتان بين تغريد هذا العصفور الذي يحيا في قفصه لا ترنو عينه إلا إلى ما يحدده له صاحبه ولا يقوى على الطيران إلا داخل محيط قفصه وبين تغريد ذلك الذي يسلم جناحيه للريح ، يطير هنا وهناك يحط حيث شاء ويأكل حيث أراد ،إن الفرق بين تغريد هذا وذاك هو نغم الحرية الذي تعرفه العقول جيدا كما تعرفه العصافير ولا تحيا إلا به ،فنحن نرتكب جريمة كبرى في حق عقولنا حين نضرب حولها ألوانا شتى من القيود بدعوى الواقع والبدهيات ، وغالب هذه القيود لا تعدو إلا أن تكون خيالات وأوهام من صنع انفسنا ، ليس لها من الحقيقة نصيب إلا أنها فرضت سجونها على عقولنا فصارت تتحرك في هذه المساحة الضيقة ترقب ذلك يوم الذي تنكسر فيه هذا القيود ، حتى تعود إليها حياتها وحيويتها.
لا أدعو الى ثورة على الثوابت والضوابط ولكني أدعو الى الانطلاق من هذه الثوابت ومنها فقط في طريق تجتازه عقول مفكرة مدركة تقدر على النظر والتمييز بين الثابت والمتغير، وإنها لكبيرة إلا على الذين غذوا عقولهم بغذاء العلم وأوقدوا أفكارهم بوقود العمل وعاشوا يميزون غايتهم جيدا ، ينطلقون في طريق هذه الغاية من منطلق ثوابتهم يسيرون داخل أطر من الضوابط والأولويات ، لكن هذه الأطر تتميز عن غيرها أنها أطر لا تحد من الامكانيات والطاقات ولا تقف عاجزة أمام المستجدات ، فتكون مدعاة الى مزيد من الابداع والتقدم وليس الى الركود والتأخر.
التمييز بين الثابت والمتغير نقطة ربما تحتاج الى أن نقف معها ، فهي الفارق بين ذلك الإبداع الذي ننشده و الإنحراف الذي نمقته ، والوصول إلى هذه الدرجة من الادراك يتطلب استحضارا لمحددات ثلاثة هي العلم والفكر والعمل ، ومع وجود هذه الثلاثية الزاهية من علم بالأصول والغايات والمصالح والمفاسد والحلال والحرام ، وفكر راشد عميق يجعل من التأمل أداة لخوض معارك الحياة وعملا مخلصا يثري رصيد التجارب لدى صاحبه ، يكون الوقوف على حدود الثابت والمتغير أمرا يسيرا ومنطلقا تنطلق منه العقول في طريق الابداع والتطوير.
نريد ذلك الجيل الذي يعرف الثوابت جيدا لينطلق من عندها قدما في طريقه نحو غايته التي يميزها بوضوح متحررا من قيود المتغيرات الوهمية وقد أعتق عقله منها فسار مفكرا مبدعا لا تقف امام قدراته عقبة أيا كانت ولا يحول بينه وبين غايته حائل ، حتى تكون النهضة ويكون التمكين باذن الله ....
والله الموفق
أخوكم /
عمرو عبد الباري