Monday, July 6, 2009

بين يدي الفكر "2" .... فكوا القيود

بسم الله الرحمن الرحيم
كان في السابعة من عمره عندما أحضر والده هذه اللوحة الفنية الجميلة ووضعها بإطارها المميز الذي يحمل في تصميمه عبق الأصالة وأطيافا من أنامل الفنان الذي قام بتصميمه ، لا زال يذكر هذه الأيام بشوق ولا زال يذكر والده الذي علمه كيف يكون متذوقا للجمال وعلمه قيمة هذه اللوحات الرقيقة و الرائعة ، أعاد النظر إلى اللوحة وقد أثر فيها الزمن تأثيرا واضحا وبدأت ملامحها تتلاشى ، اعاد النظر إلى التشققات والتغيرات التي بدأت تطرأ على الألوان ، تذكر كلمات والده عن الجمال والتذوق ، قرر الخروج لإحضار لوحة جديدة ما زالت تحتفظ بجمالها .....
عاد إلى بيته بعد بحث طويل بيد فارغة فلم يجد بغيته ، اللوحات الذي رآها جميلة جدا لكنها أكبر من هذا الإطار العريق الذي يضم لوحته البالية ، استغرق في التفكير، أصابه اليأس وترك لوحته القديمة كما هي بإطارها ، بعد أيام أصاب صغيره الإطار بكرته فانكسر الإطار وتمزقت اللوحة فأعاد اصلاح الإطار مرة أخرى ، وحاول إصلاح ما تبقى من اللوحة فهو يعرف أنه لن يجد مثلها كي تسكن هذا الإطار ، وبعد أيام حدثت مفاجأة... أهدى له صديقه لوحة جديدة رائعة ولها إطارأكثر من الرائع ، لم يتردد كثيرا .. أطاح بلوحته القديمة ووضع الجديدة مكانها.
ربما اقتبست جزءا من هذه القصة ، بل ربما لم يتأكد لي أصلا أن جزءا منها حدث في عالم الواقع ، لكني أكاد أجزم أن مثل هذه القصة تحدث كل ساعة في عالم العقول والأفكار ، فالتشبث بالإطار على حساب اللوحة التي هي منبع الفن والجمال حرم صاحبه من لوحة ربما كانت أجمل من سابقتها لكن ذنبها الأوحد أنها أكبر من الإطار الذي وضعه حاجزا بينه وبين دفع دماء جديدة من الإبداع على الجدار .
لا تستقيم حياة العقل إذا كانت بين القيود والقضبان ، فشتان بين تغريد هذا العصفور الذي يحيا في قفصه لا ترنو عينه إلا إلى ما يحدده له صاحبه ولا يقوى على الطيران إلا داخل محيط قفصه وبين تغريد ذلك الذي يسلم جناحيه للريح ، يطير هنا وهناك يحط حيث شاء ويأكل حيث أراد ،إن الفرق بين تغريد هذا وذاك هو نغم الحرية الذي تعرفه العقول جيدا كما تعرفه العصافير ولا تحيا إلا به ،فنحن نرتكب جريمة كبرى في حق عقولنا حين نضرب حولها ألوانا شتى من القيود بدعوى الواقع والبدهيات ، وغالب هذه القيود لا تعدو إلا أن تكون خيالات وأوهام من صنع انفسنا ، ليس لها من الحقيقة نصيب إلا أنها فرضت سجونها على عقولنا فصارت تتحرك في هذه المساحة الضيقة ترقب ذلك يوم الذي تنكسر فيه هذا القيود ، حتى تعود إليها حياتها وحيويتها.
لا أدعو الى ثورة على الثوابت والضوابط ولكني أدعو الى الانطلاق من هذه الثوابت ومنها فقط في طريق تجتازه عقول مفكرة مدركة تقدر على النظر والتمييز بين الثابت والمتغير، وإنها لكبيرة إلا على الذين غذوا عقولهم بغذاء العلم وأوقدوا أفكارهم بوقود العمل وعاشوا يميزون غايتهم جيدا ، ينطلقون في طريق هذه الغاية من منطلق ثوابتهم يسيرون داخل أطر من الضوابط والأولويات ، لكن هذه الأطر تتميز عن غيرها أنها أطر لا تحد من الامكانيات والطاقات ولا تقف عاجزة أمام المستجدات ، فتكون مدعاة الى مزيد من الابداع والتقدم وليس الى الركود والتأخر.
التمييز بين الثابت والمتغير نقطة ربما تحتاج الى أن نقف معها ، فهي الفارق بين ذلك الإبداع الذي ننشده و الإنحراف الذي نمقته ، والوصول إلى هذه الدرجة من الادراك يتطلب استحضارا لمحددات ثلاثة هي العلم والفكر والعمل ، ومع وجود هذه الثلاثية الزاهية من علم بالأصول والغايات والمصالح والمفاسد والحلال والحرام ، وفكر راشد عميق يجعل من التأمل أداة لخوض معارك الحياة وعملا مخلصا يثري رصيد التجارب لدى صاحبه ، يكون الوقوف على حدود الثابت والمتغير أمرا يسيرا ومنطلقا تنطلق منه العقول في طريق الابداع والتطوير.
نريد ذلك الجيل الذي يعرف الثوابت جيدا لينطلق من عندها قدما في طريقه نحو غايته التي يميزها بوضوح متحررا من قيود المتغيرات الوهمية وقد أعتق عقله منها فسار مفكرا مبدعا لا تقف امام قدراته عقبة أيا كانت ولا يحول بينه وبين غايته حائل ، حتى تكون النهضة ويكون التمكين باذن الله ....
والله الموفق
أخوكم /
عمرو عبد الباري

No comments: